بسم الله الرحن الرحيم
ثقافة شعراء الكسرة القدامى
لقد
نشأ كثير من شعراء الكسرة القدامى في عصور مظلمه حيث انتشر الجهل وتفشت الأميه
ولكن هذا لا ينفي وجود شعراء لديهم ثقافه اكتسبوها من إطلاعاتهم الخاصة في كتب
الأدب ككتاب ألف ليلة وليلة ودواوين الشعراء الغزليين كمجنون ليلى ومجنون لبنى
وبعض القصص الشعبية كقصة عنتره بن شداد العبسي وقصة الزير سالم وقصة حمزة البهلول
وتغريبة بني هلال ، وقد ظهر أثر هذه الثقافة في كسراتهم ، فمن ذلك يقول الشاعر علي
بن غريب بن وصل الرديني :
حلفت انا للعنب ما اريد ** فاخر وفيه الحموضيه
ما آلف الا ظبي الغيد ** أبو خديدات مجليه
والغيد
كلمه عربيه فصيحه صريحه وهي جمع غيداء وتعني الشابه الحسناء .
ويقول
أيضاً علي بن غريب نفسه في كسره أخرى :
جاني الجواب الذي قدام ** واوفيت ما فيه بالنيه
واحد شكا الجور في الأحكام ** واحد يُمَنَّى بِأُمْنِيَّهْ
و
أمنيه هي كلمة فصيحه ، ويقول القرآن الكريم : { إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ } [الحج: 52] ، والعوام يقولون أُمْنِيَهْ .
ويقول
شاعر مجهول :
عذب اللمى والبلح مشتاق ** والصيف مالت به غصونه
ثوب الدلع طاح في اللصاق ** ضاعت معانيه وفنونه
والشاهد
هنا عذب اللمى بمعنى حلو الريق ، ويقال إن اللمى هو السواد الخفيف الذي يقع بالشفه
، واللصاق هو نبات يلتصق بالملابس والأجسام .
ويقول
شاعر مجهول أخر :
بعد الحلا للمرار اللي ** جمر الغضى حرق الأكباد
يا ليتني مت واحسن لي ** من قبل هذا الأمر لا عاد
والشاهد
هنا ( جمر الغضا ) والغضا شجر رقيق الأغصان ولكن جمرته شديدة الحرارة .
ولمحمد
عبده أغنيه تحت عنوان ( جمرة غضى ) .
ويقول
الشاعر محمد يوسف ( أبو كرسوم ) وهو من شعراء الكسرة بينبع المعاصرين للكرنب
والقريشي وأندادهم :
يشدو
سمعته حمام الأيك ** على غصن في شوارف حوض
لما
رنا قال لي لبيك ** قلت العفو يا حمام الروض
وحمام
الأيك وحمام الروض مكتسبه من كتاب ألف ليلة وليلة في قصص العشاق والمغرمين ،
والأيك هو الشعر الملتف والروض هو الأرض المكسوه بالشجر والحشاش الخضراء ، ويشدو
بمعنى يغني ، ورنا نظر وسمع في نفس الوقت ولذلك سمي التلفزيون أو التلفاء بالمرناء
.
وسبق
أن عقبت على تفسير البعض بخطأ في البيتين على النحو التالي :
يرنو سمعته حمام الأيك=على غصن في طوارف حوض
لما رنا قال لي لبيك=قلت العفو يا حمام الروض
والصحيح
كما أثبت هنا والمعنى : فهم البعض بأن
الشاعر عندما أورد كلمة ( يشدو ) فهمها كما هو واقعها بمعنى يغني ، وعندما أورد
كلمة ( رنا ) ظن هذا البعض أنه قصد بكلمة ( رنا ) غنى أيضاًَ ، ولكن الواقع أن
الشاعر عندما قال ( يشدو) قصد أن حمام الأيك عندما شدا أو غنى لم يكن يراه ،
وعندما رنا بمعنى سمعه ورأه قال له : لبيك ، وهذا هو مقصد الشاعر ، ويدل على ثقافة
في تفريقه بين شدا بمعى غنى ورنا بمعنى غنى ورأى ، وكلمة شوارف او طوارف ، كلها
وارده في روايات مختلفة .
يقول
شاعر قديم :
يا هل ترى صاحبي يجني ** سمنه وبيضه وبكايه
وانا الذي طال بي غبني ** على الصفر دوم مجنايه
وعبارة
( يا هل ترى ) الإستفهامية جملة تدل على ثقافة مكتسبة ، والسمنه والبيضه والبكاية
من النخل المجنوي الذي يقطف ثمره وهو رطب ، وغبني بمعنى قهري وحسرتي ن والصفر جمع
صفراء وهي نخلة متوسطة الجودة ، ويقال إن وادي الصفراء سمي بهذا الإسم نسبة لها
لانتشارها في خيوفه الكثيرة .
وقال
صديقي الشاعر الشسخ محمد صالح بن محمد الرتوعي أنه قرأ في بعض المصادر العربية أن
بلدة الواسطة كانت في القديم تسمى الصفراء ، ونسب الوادي إليها والله أعلم .
وقال
شاعر كسرة أخر :
ناديت بالصوت يا حسنى ** يا عذبة الروح ناديني
حالي كما حال من يسنى ** غديت فوق العواديني
وعذبة
الروح جملة ثقافية ، ويسنى بمعنى ينحل وينحف أو يسوف كما يقولون .
ويقول
الشاعر سريحان بن فرز ([1])
الشماسي :
سعده ([2])
وذيك الجنينيه ** حثنني والعيال صغار
وانا الذي لا جدا فيه ** والكيس خالي من الدينار
والدينار
ليس من عملة هذه البلاد ، ولكنها سعت الإطلاع ، والجنينيه تصغير جنيه ، يقال للبنت
الصغيرة من باب التدليل ، وجدا بمعنى حيل وقوة .
ويقول
شاعر أخر :
أما الشقي سفرته فقران ** فقران ومناطح الشوله
يبغى يدور على الغزلان ** يبغاه من بندر الدوله
والقران
هو اقتران القمر مع بعض النجوم ويعدونه من الأيام النحسات ، والشوله هي زمانة
العقرب ، والعقرب هنا مجموعة نجوم ويقال إن القمر إذا وقع بجانب بعض النجوم ومنها
العقرب وسعد الذابح وخلافها يعتبر هذا اليوم منحوساً ، وهذا دليل على علمهم بالفلك
والنجوم ، وبندر الدولة ثقافة حضارية مكتسبة .
ويقول
الشريف عبد الكريم بن مبشر :
أبو غريب الذي نكف ** من ظبي طيبه على مثل ايش
جانا معود وهد الصف ** وحاز خزنات قرميبيش
وقرميبيش
ثقافة سياسية وهو أحد ولاة الدولة العثمانية على بعض مدن الحجاز ، وفي المدينة
المنورة وينبع البحر أسرتان باسم قرمبيش ولعلها مأخوذه من هذا الاسم .
ويقول
شاعر أخر :
يابيت مبني على دولاب ** بنايته ترك عصملي
وان جيت اسلم على ثلاب ** قالوا علي بيه متولي
وعصملي
وعلي بيه معلومات سياسيه تدل على ثقافة مكتسبة ، وثلاب كلمة تطلق بصفة دائمه على
المحبوبة أو المرأة الجميلة إذا لم يرد صاحب الكسرة أن يصرح باسمها .
ويقول
شاعر أخر :
كتين كورد كتفاح ** كم له كذا كان كاويني
كاتب كتب لي كتب بالواح ** كتبٍ كُتِبْ للسلاطيني
ولا
أدري أين مصدر هذه الكسرة ، ولكن ربما أن صاحبها لا يعرف التين والورد والتفاح ولا
تزرع ببلدته ولكنه يسمعها من الناس ، وهذه الكافات المتواليه تعتبر من المحسنات
اللفظية المعروفة في الشعر العربي الفصيح وخاصة في عصوره المتأخرة .
ويقول
الشاعر :
انبت بلو مع تجو يا ناس ** ليما بلو بنج بالهندي
مالي هوى بساير الأجناس ** غير انت ما تطلبه عندي
وهذه
ألفاظ أعجميه مأخوذه من اللغات الأخرى ، وهي ثقافة ، ويقصد بها التفوق والتحدي
للأخرين ، وكذلك إخفاء اسم الشخص المحبوب الموجود بها عن الناس .
ويقول
أيضا مرزوق بن مبيريك الحجيلي :
أنا شغل خاطري سبعين ** ثلاث ميه عدد كُمَّلْ
حرفين تنقص عن العشرين ** بالرمز يا قاري الْجُمَّلْ
وهذه
الكسرة منظومة بحروف الجُمل كما قال صاحبها ، وفيها معرفة وثقافة ، وحروف الجمل
ترد في اللغة العربية الفصحى ، وقد قرأت في كتاب من روائع شعر الغزل عند العرب
الذي أعده محمد بركات وطبع في دار المعارف المصريه ، قصيدة عربية فصيحه تحتوي على
اسم مكتوب بحروف الجُمل .
وسوف نواصل هذا الموضوع في حلقات قادمه ان شاء الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق